قصة قصيرة
وضعت آخر قرصَي بنادول لديها ، وثلاثة معلّبات
تونا في كيسٍ.
” خُذ هذا لجارتنا أم عمر” .
” لكنك لا تملكين حبوباً غيرها يا أمي”.
” هي مريضةٌ وقد تحتاجَها “.
وقبل أن يصل إبنها باب المدخل ، نادته :
” لحظة حبيبي”.
ذهبت إلى المطبخ وأتت بنصف ربطة خبز.
” وأعطِها هذه “.
” لكن هذه آخر ربطة لدينا “.
” أعرف” ، قالت ، والحزن يخيِّم في عينيها.
” ولا خبز في الحارة اليوم وغداً ” ، أكمل الولدُ بخوفٍ.
تقترب منه أكثر. تضع يدها على رأسه. تنحني. تقبّله على جبينه. تضمّه . وتهمسُ والألم يعصرُ محيّاها :
” أعرف يا حبيبي أعرف “.
ثم تستدير بسرعةٍ قبل أن يرى هطول الدمع في عينيها.
يخرج هو.
وتدخل هي غرفة النوم.
في الخزانة ، بمحاذاة ثيابها المعلّقة ، قجّة صغيرة ،
كان يدخر فيها المرحوم زوجها ، المتوفى منذ سنة ،
ما تيسّر من المال لها ولإبنهما.
وكان غالباً ما يجمعهما ويقول :
” خبئا قرشكما الأبيض ليومكما الأسود”.
وكم من أيام سوداء قد مرّت أثناء وجوده ، وبعد رحيله.
وكم من مشكلة مادية داهمتها وأبت أن تفتحها.
ليس لقلّةٍ في الحاجة ، بل لفائضٍ في الشوق والوفاء.
كيف تتصرف بالمالِ وبصمات أصابعه على كل ورقةٍ من أوراقها ؟
كيف وكلما داهمتْ القجّة ناظريها ، رأت يديه
تحملانها بفرحٍ ، ومثل طفلٍ صغيرٍ يضحك ، ثم يخبّئها في درجِ الخزانة هناك؟
كلما رأتها ، رأته هو.
كلما لامستها ، لامسته هو.
كلما اقتربت بأذنيها من طنين المعدن ، سمعت ذبذبات صوته العريضْ ينادي عليهما من داخلها :
” خبئا قرشكما الأبيض ليومكما الأسود”.
ما عساها أن تفعل اليوم؟
ذكرى زوجها ، من جهة ، تمنعها ، وجوع إبنها ، من جهة أخرى ، يدفعها.
أتفتح القجة أم لا؟
أتتصرّف بالمال الذي فيها ، أو تمتنع مثل العادة عن ذلك؟
يا لمأساة الأم!
تغمض عينيها.
ترى زوجها مبتسماً . يشمّر عن محفظته القديمة. يضع ما استطاع إدخاره من مالٍ في قجّة الأيام السوداء.
تغمضهما مرة ثانية.
تشاهد شفتي إبنها المتقشبتين. تسمعهما تصرخان :
” ماما أنا جائع “.
زوجها رحل وإبنها هنا.
بعينيها الذابلتين، ويديها الباردتين ، وأصابعها المرتجفة ، تفتح القجّة.
تسمع هسيس يخرج من داخلها.
تنصت إلى الهسيس. لا تفهم.
تقرّب أذنيها وتنصت مجدّداً.
تسمع صوت زوجها يهمس في أذنها :
” هذا لكما يا حبيبتي”.
ينقبضُ صدرها. ترتجفُ شفتاها.
تحمل أوراق المال. تعدّها بألمٍ.
بصمة ..بصمتين …ثلاثة بصمات …
مائة وعشرون ألف ليرة.
مائة وعشرون ألف ليرة ، حوّلتها بصماته إلى رقمٍ لا تضاهيه مليارات الملايين.
مائة وعشرون ألف ليرة كانت قيمتها عدداً قبل أن يبامسها. وبذكرى يديه عليها ، أمستْ بقيمةِ حنين.
كوّرت ذراعيها وغمرت المال ، وقبّلته.
“يا لزوجي المسكين. مثل جميع الفقراء. المبلغ الصغير يظنّه ثروة. وكيف ولا وكان يدخرها من تعب أيامه ، وشقاء عمره ، وعناد قدميه ، وعرق جبينه؟ يدخرها بصبرٍ وأمل ومحبة لا تضعف ولا تستسلم مع مرور الوقتِ والسنين.
يا لزوجي الطيِّب. الكريم. الطيب. النظيف”.
ضمّت المال إلى صدرها ، وراحت مثل الأطفالِ تشهق.
انفجرت آبار الدمعِ في عينيها.
لطمت أمواجها رمل يديها.
تفتح يديها كأنها تقرأ الفاتحة.
ما هذا؟
دمعٌ أسود. رائحته نفط.ٌ كثافته نفطٌ.
رفعت يديها أكثر لترى من مسافة أقرب.
” نعم. هو ليس دمعاً. هو نفطاً! “.
أمعنت في النظر.
بقعُ دمٍ حمراء آخذة في التشكّل.
تزداد فقاقيع البقع. تصبح بمساحة السواد.
يختلط لون الدم بلون النفط.
تحدّق أكثر.
هياكل جلدية وعظمية تطوف.
جثث أطفالٍ ورجال ونساء.
ترى أوتاد خيمٍ يجرفها السيلُ.
ترى أحلاماً ثقبتها الأوتاد.
ترى أيادي تجذّف إلى شاطىء الخلاص لكنها بسيل النفط والدم تغرق.
ترى لصوصاً أثرياء ، يدوسون على الجثث ويعدّون أكوام الذهب.
ترى مصانع سلاحٍ تغبّ من الدمع الأسود ما أمكن.
ترى العم سام ، بكلابه البوليسية ومشعل الحرية ، يوشوش في آذان جنودٍ.
يذهب الجنود ، مع آلات كشف المعادن ، ويفتشون جيوب الثياب التي ترتديها الجثث.
ترى الفقراء المشرّدين يبحثون بين الدماء عن فتافيت خبز.
تحدّق أكثر.
ترى وجه زوجها ، بعينيه يناديها.
يرفع يد الشوقِ نحوها ويقول :
” أحبك يا حبيبتي ”
وما كادت تسمع صوته العطوفِ حتى انهارت ، وعلى رخام الأرضِ ، سقطت.
وقعتْ وتناثرت من حولها بقع الدم والنفط والموت وأوراق المال.
عاد إبنها إلى البيت.
“ماما ” ، صاح.
لا جواب إلا السكون.
” ماما ” ، نادى.
ترمقه بحسرةٍ الجدران.
ركض إلى المطبخ.
ليست هناك.
” ماما … ماما”.
هرع إلى غرفةِ النوم.
فتح الباب.
رأى جثة أمه ملقحةً على الأرضِ، وقد تبلّلت بالماءِ المنسكب.
ركض …
قصة قصيرة بقلم ربيع دهام